واجب المسلمين عند اختلاف المفتين((جديد))
واجب المسلمين عند اختلاف المفتين
عبدالله بن صالح العجيري الناظر في أمر الفتيا، وحال الإفتاء يجد فوضى عريضة، وتناقضات غريبة، وتعالماً مزرياً، وجرأة عجيبة؛ فهذا يهدم بفتياه أصلاً شرعياً مقرراً، وذاك يتقدم ليفتي في نازلة وما هو لها بأهل، وثالث يفتي فتضحك الثكلى لفتواه، فلا عقل لهؤلاء يردعهم عما هم فيه، ولا دين يمنعهم من جرأتهم المحرمة هذه على الشرع، (فاسمع ما شئت من فتاوى مضجعة، محلولة العقال، مبنية على التجري لا التحري، تُعنت الخلق، وتشجي الحلق، لا تقوم على قدمي الحق، بل ولا على قدمي باطل وحق، حـتى هـزأ بهـم كبـار الأجـراء، وقـالـوا: فتوى بفرخة)(1)، ولو شئت أن أنقل صوراً ونماذج في هذا الباب لأصاغر قد تقدموا لسد ثغرات العلم ـ زعموا ـ لنقلت لك صفحات طوالاً. أما الجرأة على العلماء الأكابر الأفذاذ فلا تسل عن الحال، والله المستعان، وصدق رسول الله # إذ قال: «إن من أشراط الساعة أن يُرفَع العلم ويكثر الجهل»(2)، ولكن دع ذا؛ فليس ذا المقصود من هذا المقال، وإنما هي نفثة مصدور مما يرى ويسمع، ورحم الله دمعة (ربيعة) حين سأله رجل عنها قائلاً: أَدَخَلَتْ عليك مصيبة؟ قال: لا، ولكن استُفتِيَ من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم، وبعض من يفتي ههنا أحق بالسجن من السُّرَّاق(3). وهكذا فقد تتابعت دمعات الأئمة من بعده يرددون كلمته هذه كابن الجوزي(4) وابن الصلاح(5) وابن حمدان(6) وابن القيم(7) وغيرهم، كل يبكي أحوال زمانه، ويتحسر من أوضاع العلم والعلماء؛ فكيف لو رأوا زماننا، وما نحن فيه؟ اللهم فغفراناً وستراً. والمقصود أن ما يُرى من فوضى في عالم الفتيا قد سبَّب اضطراباً في المواقف؛ فما عاد كثير من المسلمين يعرفون من يُستَفتى، وما عادوا يعرفون الحق من الباطل في خضم هذه المتناقضات، فسلك الناس في هذا الباب مذاهب شتى، منهم من أخذ بالأيسر والأسهل متى ما وقف عليه ممن كان، وحيث كان، لسان الحال يقول: والله ما أُخَيَّرُ بين أمرين إلا اخترت أيسرهما وإن كان إثماً! وآخر ذو طبع جامد متشدد قد ألزم النفس الأشد وإن كان مرجوحاً، ثم تراه يُلزِم ذلك أهله وولده ومن يعول، ومن لا يعول؛ فموضع التهمة وسوء الظن، فأوقع نفسه وأهله في حرج وضنك وما ذاك بطيب ولا مشروع، وثالث متردد حائر يريد ما يريده الله، ويطلب حكمه، لكنه لا يدري أيُقْدِم أم يُحْجِم، يظن في نفسه أنه إن أقدم فلهوى، وإن أحجم فَلِهوى، قد ضاقت نفسه بالخلاف، وود لو لم يكن خلاف، أو لو أُلزِمَ الجميع بفتوى واحدة، هي الرأي المتبع، والقول المسدد، إذن لاستراح وهان عليه الإحجام أو الإقدام. ولذا صار من الواجب التعرف على الموقف الشرعي الصحيح تجاه اختلاف المفتين، والطريقة الشرعية الصحيحة للاستفتاء. وإن أمر الفتيا وما يترتب عليها من أحكام لا شك عظيم، وموقف صعب جليل يقفه العالم المفتي، والعامي المستفتي، ولكل أحكامه وما يجب عليه؛ فالعامي واجبه السؤال عما يجهل {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7]، والعالم واجبه الإبانة والجواب: {إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ} [البقرة: 159]، وليس يبرئ ذمة هذا أو هذا أي استفتاء ولا أي فتيا، بل لكل ضوابطه ومعالمه التي متى ما روعيت، كانت الإصابة للأجر، وإن كان الخطأ، ومتى أغفلت كان الشخص مخطئاً أصاب الحق في الفتيا والعمل أو أخطأ. وهذه المقالة معنية ببيان ما يتصل بأحوال المستفتي وما يتعلق به من أحكام خصوصاً عند اختلاف المفتين لمعرفة المخرج الشرعي الصحيح من الاضطراب الواقع في عالم الفتيا، ولتطمئن النفوس وتهدأ عند الوقوف على اختيار من الاختيارات أخذاً به واطِّراحاً لما سواه، وهذه المعالم مستفادة في الجملة من كلام أهل العلم المصنفين في أصول الفقه، تحت أبواب الاجتهاد والتقليد، وأحكام الإفتاء والاستفتاء؛ فليست هذه المقالة إلا محاولة لتقريب كلام أولئك الأجلَّة من أهل العلم إلى المقصودين به أصالة من المستفتين، وهذا واجب ينبغي أن يعتني به طلبة العلم والعلماء، في تقريب العلوم الشرعية إلى جمهور الأمة، خصوصاً فيما يتعلق بها من أحكام كشأن هذا الباب. ولا أزعم أن هذه المقالة كافية في هذا المجال، لكنها مقاربة أرجو أن تكون موفقة، وحلقة في سلسلة هذا المشروع المبارك، ومحاولة لتسهيل هذا الباب على جمهور أوسع، بدل أن تكون هذه المعالم حكراً على المهتمين بعلم أصول الفقه وكتبه، والأمر يحتاج إلى مزيد تسهيل وتبسيط لتكون هذه المعالم في تناول كل مسلم. أسأل الله أن تكون هذه المقالة محل نفع وإفادة، ويتحقق بها شيء من المقصود. فإلى هذه المعالم المتعلقة بباب الاستفتاء والمستفتي: الـمَعْلَم الأول: تفهم حقيقة الخلاف وطبيعته: إن مما ينبغي أن يُعلَم أن الخلاف بين البشر جميعاً، في دائرته الواسعة ـ بين أهل الإسلام ومخالفيهم ـ أو دائرته الأضيق ـ بين أهل الإسلام على صوره وأشكاله حقيقة واقعة، وسنة ربانية ماضية، لا يمكن رفعها، ولا إزالتها، ولا إعدامها من الوجود: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَـجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ #118#) إلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} [هود: 118 - 119]، فـ (وقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لا بد منه لتفاوت إراداتهم وأفهامهم وقدرات إدراكهم)(1)، ولذا فإن التذمر من وجود الخلاف، والحيرة عند كل اختلاف، مذهب غير حميد، ومسلك غـير رشيـد، بل الواجـب أن تُتفهم طبيعة هذا الخلاف في إطـاره الشرعي الصحـيح، وتُدرس أسبابه، فإن العلم بها يخفف من حدة الاختلاف ويُحسن ظن المرء بالعلماء(2)، كما ينبغي أن يُتعرف على المنهج السليم في التعاطي مع مسائل الخلاف والتعامل معها، وإعطاء كل مسألة حقها ومستحقها، فلا يُتعامل مع الكل تعاملاً واحداً، فتعطى الأصول أحكام الفروع، وتعطى الثوابت أحكام المتغيرات، بل يحسن بالمرء التعامل مع كل مسألة بما يليق بها، وبما يناسبها، ومتى ما حصل ذلك، وكان القصد طاعة الله ورسوله، والمتابعة حاصلة للمنهج الشرعي، لم يضر ذلك الاختلاف شيئاً، بل يصير سعة ورحـمة لا فرقة وعذاباً. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: (والنزاع في الأحكام قد يكون رحمة إذا لم يُفْضِ إلى شر عظيم من خفاء الحكم، ولهذا صنف رجل كتاباً سماه: كتاب الاختلاف، فقال أحمد سَمِّه: كتاب السعة)(3)، (وبهذا يظهر أن الخلاف الذي هو في الحقيقة خلاف ناشئ عن الهوى المضل لا عن تحري قصد الشارع باتباع الأدلة على الجملة والتفصيل وهو الصادر عن أهل الأهواء، وإذا دخل الهوى أدى إلى اتباع المتشابه حرصاً على الغلبة والظهور بإقامة العذر في الخلاف، وأدى إلى الفرقة والتقاطع والعداوة والبغضاء لاختلاف الأهواء وعدم اتفاقها، وإنما جاء الشرع بحسم مادة الهوى بإطلاق، وإذا صار الهوى بعض مقدمات الدليل لم ينتج إلا ما فيه اتباع الهوى وذلك مخالفة الشرع، ومخالفة الشرع ليست من الشرع في شيء فاتباع الهوى من حيث يظن أنه اتباع للشرع ضلال في الشرع؛ ولذلك سميت البدع ضلالات، وجاء أن كل بدعة ضلالة؛ لأن صاحبها مخطئ من حيث توهم أنه مصيب)(4). وأنت سائلي بعد ما تقدم: كيف يمكن التعرف على الثوابت والمتغيرات، وما يصح فيه الخلاف مما لا يصح، ولسنا بعلماء ولا مجتهدين؟ والجواب: 1 ـ أن جملة واسعة من الأصول والثوابت مما يعلمها أهل الإسلام جميعاً ضرورة: وهي من الدين الجامع الذي لا يصح الاختلاف فيه؛ فلو قدر مخالفة البعض في هذه؛ فالواجب رد هذا الاختلاف رأساً، ولا يصح أن يُلتفت إليه، أو يُتأثر به، أو يُحكى في المسألة خلاف بناءً عليه، وهذه المسائل مما يتفاوت الناس في إدراكها بحسب الأحوال والأزمنة والأماكن؛ فدائرة العلم بها والإحاطة بها في أماكن العلم ومحال انتشاره أوسع من أماكن اندراس العلم وقلته وخفائه؛ فكل يلزمه من ذلك ما يلزمه بحسب حاله، وبحسب الحال يكون العذر وعدم الإعذار. 2 ـ أن يَعرف المسلم: أن مسائل الشريعة لا تخرج عن قسمين: أ ـ مسائل إجماعية، لا خلاف فيها. ب ـ مسائل خلافية. فمسائل الإجماع كاسمها مسائل إجماع، فلا يصح فيها خلاف، والمعتبر فيها أقوال العلماء المجتهدين، ومتى ثبت لزم، ولم يجز العدول عنه أو الخروج لرأي شخص كائناً من كان. ومن الإجماع ما هو مدرَك لجميع المسلمين وهو من إجماعهم، ومنه ما يختص بمعرفته العلماء؛ فشأن الأول بَيِّنٌ من جهة العلم به ولزومه وعدم جواز العدول عنه، أما الثاني فلازم كذلك لإجماع العلماء عليه، ويندر جداً أن تجد عالماً مجتهداً يخرج عنه أو يفتي بخلافه؛ فالعلم به من جهة المفتي بَيِّنٌ كذلك، والعدول عنه محرم لا يجوز. أما مسائل الخلاف فعلى ضربين: أ ـ ما يسوغ فيه الخلاف، وللمستفتي في مثل هذه المسائل موقف شرعي سيأتي بيانه مفصلاً، وهو محل الإشكال غالباً، وهو المقصود بهذه الأوراق أصالة. ب ـ ما لا يسوغ فيه الخلاف، وذلك لشذوذ في القول، أو بُعد عن الدليل، أو ضعف في الاستدلال، وهو المشار إليه في مثل قول ابن الحصار: فليس كل خلاف جاء معتبراً إلا خلاف له حظ من النظر فهذا اللون من الخلاف متى استبان أمره للمستفتي، لم يصح له الأخذ بالمرجوح ولا العدول عن القول الصحيح الراجح إليه. وله أمارات وعلامات، كالتفرد برأي يخالف المشهور المستقر بين جماهير أهل العلم، أو المخالفة البينة لنص المسألة وهكذا. وهذا اللون من المخالفة هو المسمى عند العلماء بـ (زلة العالم) وهي التي يحرم متابعته عليها، واعتماد قوله فيها. يقول الإمام الشاطبي في ضابط هذا اللون من الاختلاف مقرباً إياه لغـير المجـتهدين من المتـفقهين: (إن له ضابطاً تقريبياً وهو أن ما كان معدوداً فى الأقوال غلطاً وزللاً قليل جداً فى الشريعة، وغالب الأمر أن أصحابها منفردون بها قلَّما يساعدهم عليها مجتهد آخر؛ فإذا انفرد صاحب قول عن عامة الأمة فليكن اعتـقادك أن الحق في المسألة مع السواد الأعظم من المجتهدين لا من المقلدين)(1). ومن نظر في أحوال من تقدم وتورعهم عن الفتيا إلا بما يعتقدون صحته يرى أن ذلك خفف كثيراً من وقوع الخلاف الشاذ بينهم؛ فلو أن المفتين التزموا مثل هذا الأصل ـ أصل التورع ـ ولم يفتوا إلا بما يعرفون متى وجب؛ لخفَّ الأمر على المستفتين، ولسلموا من العمل بالأقوال الشاذة التي لا يصح أن يفتى بها ولا العمل بمقتضاها. وفي الجملة: فما جعل الله الباطل كالحق، بل أقام على هذا وهذا علامات وآيات تدل عليه، يدركها المخلصون المجاهدون فيه جل وعلا: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإنَّ اللَّهَ لَـمَعَ الْـمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69] ، ومـع ذلك فـلـو قـدر وقـوعـه ولم يستبن أمره للعامي، فتابع مفتيه عليه فإنه يُعذَر متى كان الحق طَلِبَته، واجتهد في تطلُّب المفتي الصالح، ومتى ما استبان له شذوذ القول بمخالفة آخر بنص بَيِّن؛ فاتباع النص ألزم وأوجب. يقول شيخ الإسلام: (والعالم إذا أفتى المستفتي بما لم يعلم المستفتي أنه مخالف لأمر الله فلا يكون المطيع لهؤلاء عاصياً، وأما إذا علم أنه مخالف لأمر الله فطاعته في ذلك معصية لله)(2)، وإن لم يتضح له فالأمر من قبل ومن بعد معلق بقوله ـ تعالى ـ: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7]، «فإنما شفاء العي السؤال»(3)، وسيأتي مزيد بيان وتفصيل. فإذا اتضح ما تقدم ـ ولو نظرياً ـ وهو متضح في بعض المسائل عملياً مع تفاوت بين الناس في ذلك؛ فإن التعامل الشرعي الصحيح يكون بإعطاء كل مسألة الوزن الذي تستحقه. وليس هذا التقسيم المتقدم ذا حدود مانعة، بحيث تفصل بين المسائل بضابط قطعي، بل الأمر يتفاوت من عالم لآخر ومن مسألة لأخرى؛ فمن مسائل الخلاف مثلاً ما يكاد أن يكون إجماعاً لضعف الخلاف جداً، ومنها ما يتأرجح بين الخلاف السائغ وغير السائغ، وهكذا. 3 ـ أن تصرفات المفتين عادة تكون مركبة من قضيتين: حكم شرعي مستنبط، ثم تنزيل لهذا الحكم على واقعة مخصوصة(4)؛ وعليه فالفتيا قد يدخل عليها الخطأ إما من قصور في إدراك الحكم، أو تقصير في معرفة الواقع، ولذا فالاختلاف الحاصل بين المفتين قد يكون أحياناً في تحرير حكم المسألة، وقد يكون في تنزيلها على الواقع. وبناء على هذا؛ فمن الفتاوى ما يمكن أن يجهل المستفتي خطأ الحكم المضمَّن في الفتوى لقصوره عن رتبة الاستنباط، لكنه لا يجهل مخالفة التنزيل للواقع، إما لعلمه بحقيقة الحال والواقع لتعلقه به، وعدم مطابقة الفتيا له، أو لغموض في السؤال أدى إلى إشكال في عملية التنزيل، وقد يكون للمستفتي مزيد اختصاص بعلم الواقعة من المفتي، مما يجعله أقدر على تفهمها، ومعرفة صحة التنزيل من عدمه، والاجتهاد في تحقيق المناط مما يشترك في بعض صوره العامة والخاصة، وفي بعض صوره لا يقدر بعض الخـاصة على دقة التنزيل بخلاف بعض العامة للاختصاص، ولا تثريب في ذلك، كتمييز المرأة لدم الحيض مثلاً، ومعرفة المريض للمشقة الواقعة عليه من مرضه، ودراسة القوائم المالية لشركة لمعرفة حكمها وهكذا؛ فلو قدر أن مفتياً ألزم من جامع زوجته في نهار رمضان بالصوم، وادعى المستفتي عجزه، لم يكن للمفتي أن يلزمه بذلك، بل ينتقل به إلى ما دونه من صدقة، ويكل أمره وباطنه إلى الله؛ فإن كان صادقاً، وإلا أثم، وسلم المفتي. وكم من مسألة معلقة بالعرف مثلاً يتكلم فيها العالم باعتباره واحداً من أهل العرف فيخالفه غيره بالاعتبار ذاته، فتحقيق هذا إنما يكون بتحقيق طبيعة الواقعة ومناط الحكم. وعليه؛ فاسـتبانة الخـطأ فـي مثـل هـذه الفـتاوى قد يتضح بما تقـدم، ولا يصح إن اتضح للمستفتي خطأ في التنزيل الأخذ بالفـتيا، بل الواجب توضيح الواقع على صورته للمفتي، أو الانتقال لمفت آخر؛ إذ المقصود ليس العمل بأي فتيا تتيسر، وإنما طلب الفتيا الموافقة لشرع الله والحاصلة في محلها، وليس القصد من هذا التقليل من شأن العلماء أو الطعن عليهم أو تخطئة تنزيلاتهم بإطلاق كلاَّ، وكلاَّ، وإنما القصد وضع الأمر في نصابه، وبيان وجهٍ من أوجه اختلاف العلماء، والذي ينبغي أن يُراعى ويُتفهم في إطاره الشرعي الصحيح، وفرق بين فهم النص وفهم الواقع؛ فكم أحاط شخص بأحدهما ونقص حظه من الثاني، وإن كان حد الكمال الأدنى من هذا وهذا مطلوباً في الإفتاء. والله أعلم. الـمَعْلَم الثاني: طلب المؤهَّل للفتيا: إن من الواجبات الشرعية المتعلقة بالمستفتي أن يتطلَّب المفتي الصالح للإفتاء؛ وذلك عملاً بقوله ـ تعالى ـ: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7]، فلا تبرأ الذمة بسؤال أي شخص، بل لا تبرأ إلا بسؤال أهل الذكر من العلماء؛ فالواجب أن يتحـرى المستفـتي في هـذا، ويجـتهد لإصـابـة المفتي المؤهَّـل مجـرداً عن صـنوف الهـوى، والتعـصب لشخـص، أو طائفة، أو إقليم، طلباً لإصابة مراد الله ـ جل وعلا ـ وحكمه. وإذا كان الرب قد استشهد العلماء على أجلى حقيقة شرعية، وأظهر الأصول الدينية، وهي الشهادة له بالوحدانية، {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ وَالْـمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْـحَكِيمُ} [آل عمران: 18]، فلا يصح للعباد أن يستشهدوا على أحكام رب العباد إلا أهل العلم والديانة، فلا يصح استفتاء أهل الجهالة والغباوة، ولو تَصدَّروا أو صُدِّروا، ولا يجوز أن يُستـفتى متسـاهل خـارج عن الحد طلباً للترخُّص والتيسير، ولا جامد متعنت متشدد يسلَّط على أهل التقصير، بل يُطلب من يُظَن أنه يصيب حكم الرب ومراده، وقد قال الإمام محمد بن سيرين: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم(1)، ولو أن أهل الجهالة مُنِعوا فتيا الناس لقل الشذوذ، وضعف أمره، ولخفَّت وطأة الخلاف على كثير من المستفتين؛ فإنهم لجهلهم وبجهلهم قد كثَّروا الدَّخَن لا كثرهم الله، وصدق من قـال: (العـلم نقطة كثَّرها الجاهلون)(2)، و (إذا ازدحم الجــواب خفي الصـواب)(3)، و (اللغط يكون منه الغلط)(4) و (لو سكت من لا يعلم لسقط الاختلاف)(5)، يقول ابن حزم: (لا آفة على العلوم وأهلها أضر من الدخلاء فيها وهم من غير أهلها؛ فإنهم يجهلون، ويظنون أنهم يعلمون، ويقدِّرون أنهم يصلحون)(6)، (فأضحى، وأمسى، وبات، وأصبح لزاماً على كل غيور أن تكون منه نفثة مصدور، لبيان عُوار البضاعة، والتبر من (الفبر)، فليس كل بيضاء شحمة، ولا كل سوداء تمرة، وترى الرجل كالنخل، وما يدريك ما الدخل)(7). فالاحتساب على أولئك واجب شرعي على من بيده حق الاحتساب من عالم أو أمير طلباً لكف شرهم عن الناس؛ والحَجْرُ عليهم فريضة لازمة صيانة للدين والعلم؛ إذ (الحَجْرُ لاستصلاح الأديان أوْلى من الحَجْر لاستصلاح الأموال والأبدان)(8)، يقول ابن القيم: (من أفتى الناس وليس بأهل للفتوى فهو آثم عاص، ومن أقره من ولاة الأمور على ذلك فهو آثم أيضاً. قال أبو الفرج ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ: ويلزم ولي الأمر منعهم كما فعل بنو أمية؛ وهؤلاء بمنزلة من يدل الركب وليس له علم بالطريق، وبمنـزلة الأعمى الذي يرشـد النـاس إلى القـبلة، وبمنـزلـة من لا معرفة له بالطب وهو يطب الناس، بل هو أسوأ حالاً من هؤلاء كلهم، وإذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبُّب من مداواة المرضى؛ فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة ولم يتفقه في الدين؟ وكان شيخنا ـ رضي الله عنه ـ شديد الإنكار على هؤلاء، فسمعته يقول: قال لي بعض هؤلاء: أجعلتَ محتسباً على الفتوى؟ فقلت له: يكون على الخبازين والطباخين محتسب، ولا يكون على الفتوى محتسب؟!)(9)، وصدق رحمه الله، والأمر كما قال ربيعة: وبعض من يفتي ههنا أحق بالسجن من السراق. وقد تكلم العلماء في صفة المفتي وشروطه، وفصَّلوا الكلام فيه، ليُعـرَف المحق من المبطل، والصادق من الكاذب، والعالم مـن الجاهل؛ فمما ذكـروه، ونبـهوه عليـه، مما يهم المستفتي، ما قاله الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ: (لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله ـ عز وجل ـ إلا رجل عارف بكتاب الله، بناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكيه ومدنيه، وما أريد به، وفيما أُنزل، ثم يكون بعد ذلك بصيراً بحديث رسول الله #، وبالناسخ والمنسوخ، ويعرف من الحديث ما عـرف مـن القـرآن، ويكـون بصـيراً باللغة، بصـيراً بالشـعر وما يحتاج إليه للعلم والقرآن، ويستعمل مع هذا الإنصاف، وقلة الكلام، ويكون بعد هذا مشرفاً على اختلاف أهل الأمصار، ويكون له قريحة بعد هذا، وإذا كان هذا هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكن هكذا فله أن يتكلم في العلم ولا يفتي)(10). ويقول ابن الصلاح في شروط المفتي وصفاته: (أن يكون مكلفاً مسلماً، ثقة مأموناً، منزهاً عن أسباب الفسق، ومسقطات المروءة؛ لأن من لم يكن كذلك فقوله غير صالح للاعتماد، وإن كان من أهل الاجتهاد، ويكون فقيه النفس، سليم الذهن، رصين الفكر، صحيح التصرف والاستنباط، متيقظاً)(11). فهذا زبدة ما هنالك من صفات المفتي، وتفصيل هذه والتدليل عليها مما يطول فيه الكلام(12). ولعل مما يسهل الأمر ويقربه إلى الذهن أن يعتبر المستفتي في هذا الباب بالمثال؛ فإنه يقرب مدلول ما تقدم، ويسهِّل عليه المقايسة لمعرفة العالم من غيره، وذلك بمطالعة أحوال من تقدم من العلماء وسِيَرهم كسعيد بن المسيب، والحسن البصري، ومحمد بن سيرين، وعبد الله بن المبارك، وسفيان الثوري، والفضيل بن عياض، وابن عيينة، والأئمة الأربعة، وهكذا في جمع كثير جداً، وكذا من تأخر من أهل العلم ممن وُقِفَ عليهم بالمعاينة والمشاهدة كالشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ محمد بن صالح العثيمين، والشيخ محمد ناصر الدين الألباني وغيرهم، فإنه سيعرف حقيقة العالم، وما يختص به من صفات تؤهله للنظر والاستنباط، وتصحح للمستفتي فتياه. وقد نص العلماء على أن الطريق إلى التعرف على العالم شهرته بالعلم والعدالة بحيث يستفيض ذلك بين الناس، ونص بعضهم على أنه يُكتفى في هذا الباب بشهادة عدلين على أن فلاناً مفتٍ ولو لم يشتهر؛ لأنها من جنس الشهادة، بل قال بعضهم بواحد قياساً على جواز الواحد في نقل الإجماع، وبالغ بعضـهم فاكـتفى بشـهادة الرجل العدل لنفسه بالفتيا ليُستفتى، وأحسب أن مثل هذه الطرائق في التجوُّز بشهادة الواحد والاثنـين لو تسـومح فيـها في عصر متقدم لصلاح الأحوال، وشهرة العلماء، والقيام على المتعالمين الجهلاء لكان له وجه، أما وأن الحال قد تغير، والأمر قد اضطرب واختلط الحابل بالنابل، والليل بالنهار، لكثرة التعالم، وقلة العلماء، وظهور الجهل، وضعف العلم؛ فإن التحري في هذا الباب آكَد، وهو يستدعي من المستفتي اجتهاداً ومجاهدة، وجِدّاً ومثابرة في تطلُّب العالم الثقة، كما يستدعي من علماء الحق، وحراس العلم، أن يقوموا بدورهم في القيادة والحراسة، وليعلموا أن زمن العزلة والخمول قد ولَّى وراح، فلا الانعزال في حقهم جائز ولا الخمول سائغ، بل لا بد من الاشتهار قياماً بالدور الواجب المناط بهم، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وأن هذه الشهرة المشروعة لا تكون منهم إلا بالبذل من نفوسهم تعليماً وإرشاداً، بالوعظ، والتدريس، والخطابة، والتأليف، والخلطة، والمجالسة، وقوفاً على أحوال الناس، وسعياً في حل مشكلاتهم. ومما يعين الإنسان على الوقوف على العالم الصادق، تحصيل العلم، ومجالسة العلماء وطلبة العلم؛ فإن من له ذائقة علمـية يستـطيع مـن خلالها تذوق ما عند الرجل من عـلم وجهـل، ويميـز بـها العالم من الجاهل، والشيء يحن إلى الشيء؛ فليكن لك من العلم ما يؤهلك للنظر والتأمل، وليس القصد محاكمة العالم البحر، أو امتحانه بما يحصل من علم يسير، وإنما الشيء يدل على الشيء، والمثال يُعرف بالمثـال، كما أن فـي مجـالـسة العـلمـاء ومخـالطـة طـلـبة العلم ما يدل المرء على من يستحق أن يستفتى بتزكية أو ثناء أو إشارة، وإياك والاغترارَ بالمناصب، أو الرتب العلمية الحادثة ـ الماجستير والدكتوراه ـ فليس كل من حصَّل شيئاً من هـذه بالضرورة فقـيهاً، وليـس كل بيـضاء شحـمة، فليـكن منك هذا الأمر على بال، ومن نظر واخـتبر ومحَّص عـرف. يقـول شيـخ الإسلام ابن تيـمية: (والمنـصب والولاية لا يجعل من ليس عالماً مجتهداً عالماً مجتهداً، ولو كان الكلام في العلم والدين بالولاية والمنصب لكان الخليفة والسلطان أحقَّ بالكلام في العلم والدين وبأن يستـفتيه الـناس ويرجـــعوا إليه فيما أشـــكل عليهم في العلم والدين؛ فـإذا كان الخـليـفة والسلطان لا يدعي ذلك لنفسه، ولا يلزم الرعية حكمه في ذلك بقول دون قول إلا بكــتاب الله وسنـة رسـوله؛ فـمـن هو دون السلـطان في الولايـة أوْلى بأن لا يتـعدى طـوره)(1). وخلاصة هذا الـمَعْلَم: التأكيد على لزوم اجتهاد المستفتي في أعيان المفتين، لمعرفة من يستحق أن يستفتى ممن لا تجوز فتياه، وأنه متى ما استفرغ وسعه، وأجهد نفسه في تطلُّب المفتي الحق، فقد أدى الذي عليه؛ فإن أصاب المستحق فالحمد لله وهو المظنون، وإلا كان معذوراً إذ تطلَّب الحق وكان إثمه على من أفتاه، وفيه يقول النبي #: «من أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتاه»(2). ومعلوم أن المستفتي إن استفتى من يعلم جهله، أو لا يعلم علمه، كان مخالفاً للأمر {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} فلا يكون الإثم قاصراً على المفتي وحده بل يعمهما. يقول السندي: (إِذَا كَانَ هَذَا الْمُفْتِي مَعْلُومًا بِالجْهلِ وَبِالْفَتْوَى بِهِ لَمْ يَجُزْ لِمَنْ يَسْأَلهُ)(3)، وهذا بين واضح بحمد لله. الـمَعْلَم الثالث: ليكن الحق هو طَلِبَتك ومقصودك: وهذا الـمَعْلَم هو أمُّ المعالم وأصلها، وهو الذي إن صح صح للمرء مسلكه في الاستفتاء، واتضح الحق له، واستنار قلبه، وأشرقت روحه، ومتى ما كان مُقْصىً مبعداً، كانت الوحشة والظلمة، وكان الحق بمعزل. وقد تقرر أن واجب المستفتي عند الجهل بالشرع سؤال أهل الذكر، وهذا السؤال عبادة يشترط فيها ما يشترط في العبادة من إخلاص ومتابعة، فتجريد الإخلاص أن يكون الرب هو المقصود، والمتابعة الواجبة تكون بسؤال أهل الذكر، على وجه يوصل إلى الحق. ومن الأصول المقررة أن مرجع المسلم أياً كان ـ عالماً أو عامياً ـ عند الاختلاف هو الكتاب والسنة طلباً لإصابة الحق وتحقيق مراد الرب. يقول الله ـ تعالى ـ: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلَى اللَّهِ} [الشورى: 10]، ويقول ـ تعالى ـ: {فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59]؛ فالرد لله ورسوله واجب من الجميع، وهو مَعْلَمٌ بدهي مستقر عند المسلمين جميعاً، بل هو مقتضى وحقيقة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ وعليه فالعالم يطلب حكم الله ـ جل وعلا ـ بنظره واجتهاده في دلائل الكتاب والسنة، والعامي يطلب ذلك بتوسيط العالم في فهم الكتـاب والسـنة لعـجزه وقصـوره عـن هذه الرتبة. يقول يزيد ابن هارون: (إن العالم حجتك بينك وبين الله تعالى؛ فانظر من تجعل حجتك بين يدي الله تعالى)(1)، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (فأئمة المسلمين الذين اتبعوهم وسائل وطرق وأدلة بين الناس وبين الرسول يبلغونهم ما قاله، ويفهمونهم مراده بحسب اجتهادهم واستطاعتهم)(2)، وهذا الرد للكتاب والسنة هو المخرج للإنسان من داعية هواه ليكون عبداً لله. يقول الإمام الشاطبي: (إن في مسائل الخلاف ضابطاً قرآنياً ينفي اتباع الهوى جملة، وهو قوله ـ تعالى ـ: {فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} وهذا المقلِّد قد تنازع في مسألته مجتهدان، فوجب ردها إلى الله والرسول وهو الرجوع إلى الأدلة الشرعية، وهو أبعد من متابعة الهوى والشهوة؛ فاختياره أحد المذهبين بالهوى والشهوة؛ مضاد للرجوع إلى الله والرسول)(3)، والعالم المجتهد متى ما استفرغ وُسْعَه وبذل الجهد الواجب في تطلُّب الحق كان مأجوراً بكل حال أصاب الحق أو أخطأه؛ فإن كانت الإصابة فقد أصاب أجرين؛ وإلا كان له أجر واحد وخطؤه مغفور. يقول النبي #: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر»(4)، فإن قصَّر في الاجتهاد وفرط في النظر وأفتى دون إعمال الفكر الواجب كان الإثم، أصاب الحق بفتياه أو أخطأه. ويقال في المستفتي ما قيل في المفتي، إن استفرغ وُسْعَه في تطلُّب العالم الصالح لأن يفتي، وأحسن السؤال، وتجرد عن دواعي الأهواء أن تحرفه عن تطلب الحق، وكان الحق هو طَلِبَته ومقصوده، كان مأجوراً بكل حال أصاب الحق أو أخطأه. أما إن كان الحق غير مقصود بل المقصود غيره؛ فنية فاسدة يأثم بها أصاب الحق أو أخطأه. والله المستعان. يقول الباجي مبيناً حال هذا الصنف من المستفتين: (وكثيراً ما يسألني من تقع له مسألة من الأيْمان ونحوها: لعل فيها رواية؟ أو لعل فيها رخصة؟ وهم يرون أن هذا من الأمور الشائعة الجائزة، ولو كان تكرر عليهم إنكار الفقهاء لمثل هذا لما طولبوا به، ولا طلبوه مني ولا من سواي، وهذا مما لا خلاف بين المسلمين ممن يعتد به في الإجماع أنه لا يجوز ولا يسوغ ولا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا بالحق الذى يعتقد أنه حق رضي بذلك من رضيه وسخطه من سخطه، وإنما المفتي مخبر عن الله ـ تعالى ـ في حكمه؛ فكيف يخبر عنه إلا بما يعتقد أنه حكم به وأوجبه، والله ـ تعالى ـ يقول لنبيه ـ عليه الصلاة والسلام ـ: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49] الآية، فكيف يجوز لهذا المفتي أن يفتى بما يشتهي، أو يفتي زيداً بما لا يفتي به عَمْراً، لصداقة تكون بينهما أو غير ذلك من الأغراض؟ وإنما يجب للمفتي أن يعلم أن الله أمره أن يحكم بما أنزل الله من الحق، فيجتهد في طلبه وينهاه أن يخالفه وينحرف عنه. وكيف له بالخلاص مع كونه من أهل العلم والاجتهاد إلا بتوفيق الله وعونه وعصمته؟)(5). وإذا نظـرنا في أمر الاستفتاء نلحظ أنه ما وُضِع أصلاً إلا طلباً لحكم الله ـ جل وعلا ـ خروجاً من تحكيم الهوى، وإلا لو كان الهوى هو المطلوب وهو المقصود، لكان الاستفتاء عبثاً، ولذا يقول الإمام الشاطبي في كلام نفيس: (وأما إن كان عامياً فهو قد استند في فتواه إلى شهوته وهواه؛ واتباعُ الهوى عينُ مخالفة الشرع، ولأن العامي إنما حكَّم العالم على نفسه ليخرج عن اتباع هواه، ولهذا بعثت الرسل وأُنزلت الكتب؛ فإن العبد في تقلباته دائر بين لَـمَّتين: لمةِ مَلَك، ولمة شيطان؛ فهو مخير بحكم الابتلاء في الميل مع أحد الجانبين، وقد قال ـ تعالى ـ: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا #!7!#) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7 - 9]، {إنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إمَّا شَاكِرًا وَإمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 3] ، {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10]، وعامة الأقوال الجارية في مسائل الفقه إنما تدور بين النفي والإثبات والهوى لا يعدوهما؛ فإذا عرض العامي نازلته على المفتي فهو قائل له: أخرجني عن هواي، ودلني على اتباع الحق؛ فلا يمكن والحال هذه أن يقول له: في مسألتك قولان، فاختر لشهوتك أيهما شئت! فإن معنى هذا تحكيم الهوى دون الشرع، ولا ينجيه من هذا أن يقول: ما فعلت إلا بقول عالم؛ لأنه حيلة من جملة الحِيَل التي تنصبها النفس وقاية عن القال والقيل، وشبكة لنيل الأغراض الدنيوية، وتسليطُ المفتي العاميَّ على تحكيم الهوى؛ وبعد أن طلب منه إخراجه عن هواه رمى به في عماية وجهل بالشريعة وغش في النصيحة)(6). وإن إخلاص القلب لله طلباً لإصابة أمره وحكمه واجب، ومتى ما اتضح للمستفتي هذا الوجوب، وامتلأت به نفسه وروحه، فإنه سيحمله على بذل ما يقدر عليه في سؤال من تبرأ الذمة بسؤاله، ولا يضيره بعد ذلك أصابه أو أخطأه، كما سيحمله على الترجيح الشرعي الصحيح عند اختلاف المفتين، فلا يأخذ بالأيسر لمجرد الترخُّص، أو بالأشق لمجرد الاحتياط، أو بقول الأكثر؛ لأنه قول الأكثر، بل لا يأخذ بالقول إلا طلباً للحق، فيرجح بين أقوالهم بلون من ألوان الترجيح. يقول الشاطبي: (وأما اختلاف العلماء بالنسبة إلى المقلدين فكذلك أيضاً لا فرق بين مصادفة المجتهد الدليل ومصادفة العامي المفتي؛ فتعارض الفتويين عليه كتعارض الدليلين على المجتهد؛ فكما أن المجتهد لا يجوز في حقه اتباع الدليلين معاً ولا اتباع أحدهما من غير اجتهاد ولا ترجيح؛ كذلك لا يجوز للعامي اتباع المفتيين معاً ولا أحدهما من غير اجتهاد ولا ترجيح)(1)، ويقول: (فالمجتهدان بالنسبة إلى العامي كالدليلين بالنسبة إلى المجتهد؛ فكما يجب على المجتهد الترجيح أو التوقف فكذلك المقلد، ولو جاز تحكيم التشهي والأغراض في مثل هذا لجاز للحاكم وهو باطل بالإجماع)(2). فيقال فيمن اختلف عليه مفتيان ما يقال في مريض اختلف عليه طبيبان مثلاً: أحدهما يقول في ورم أصابه: أمره سهل يسير ولا تشغل بالك، وأعطاه بعض المراهم. وآخر يحذره مغبتها، وأنه ورم سرطاني ينبغي المبادرة في استئصاله؛ فكيف ستـكون حاله: أتراه يبادر إلى الأخذ بقول الأخف منهما؛ لأنه ما يتمناه في الباطن، أم سيسعى في الترجيح بينهما بالأخذ بقول الأعلم، أو الأخبر، أو المختص، أو بالنظر في دلائل هذا وهذا وما يقدمه كل من براهين، أو بسؤال ثالثٍ يرجح قول أحدهما؟ وهكذا، بل لو قُدّر أنه لم يستطع الترجيح بين القولين المتعارضين إلا بشيء يقع في قلبه، أو برؤيا منام، لساغ له العمل به وهو خير من الإقدام على أحد القولين بغير مرجح البتة. يقول الخرقي: (إذا اختلف اجتهاد رجلين اتبع أوثقهما في نفسه)(3). ويقول الإمام ابن القيم: (فإن اختلف عليه مفتيان فأكثر فهل يأخذ بأغلظ الأقوال، أو بأخفها، أو يتخير، أو يأخذ بقول الأعلم، أو الأورع، أو يعدل إلى مفت آخر فيـنظر من يوافـق من الأولين فيعمل بالفتوى التي يوقع عليها، أو يجب عليه أن يتحرى ويبحث عن الراجح بحسبه؟ فيه سبعة مذاهب، أرجحها السابع، فيعمل كما يعمل عند اختلاف الطريقين أو الطبيبين أو المشيرين)(4)، ويقول في مسألة العامي إذا لم يجد من يفتيه: (والصواب أنه يجب عليه أن يتقي الله ما استطاع، ويتحرى الحق بجهده ومعرفة مثله، وقد نصب الله ـ تعالى ـ على الحق أمارات كثيرة، ولم يسوِّ الله ـ سبحانه وتعـالى ـ بـين ما يحبـه وبـين ما يسخـطه مـن كـل وجه بحـيث لا يتميز هذا من هذا، ولا بد أن تكون الفطر السليمة مائلة إلى الحق مؤثرة له، ولا بد أن يقوم لها عليه بعض الأمارات المرجحة ولو بمنام أو بإلهام؛ فإن قدر ارتفاع ذلك كله وعدمت في حقه جميع الأمارات فهنا يسقط التكليف عنه في حكم هذه النازلة، ويصير بالنسبة إليها كمن لم تبلغه الدعوة، وإن كان مكلفاً بالنسبة إلى غيره؛ فأحكام التكليف تتفاوت بحسب التمكن من العلم والقدرة. والله أعلم)(5)، وهذا كلام علمي عالٍ لو وجد طريقه إلى الجمهور وتحقق العمل به لزال كثير مما يُرى من اضطراب في أبواب الاستفتاء، ولامّحت كثير من صور التضجر من اختلاف العلماء، ولهان الخطب، لكن المشكلة أن تطلُّب الحق قليل، والهوى غلاب، والنفوس ضعيفة والله المستعان، واعلم أن تطلُّب الحق هذا إنما يكون بالتجرد عن كل طَلِبَةٍ إلا هو، فلا هوى يُقدَّم، ولا عادة تُحكَّم، ولا عصبية تُعمي وتُصم. وقضية التجرد هذه ليست بالسطحية ولا بالسهولة التي يظنها البعض؛ إذ الأهواء أهواء ظاهرة جلية وأهواء دقيقة خفية؛ فلو سلم من الهوى الظاهر فأنَّى له أن يسلم من خَفِيِّه إلا بمجاهدة ومصابرة ومحاسبة وعسى، وليس المقصود الإعنات أو التعسير كلاَّ، وإنما التنبيه لما يعتري البعض من هوى خفي دقيق لا يُتنبه له فيكون سبب الانحراف وأصل الهلاك، كإلف قول، أو محبة متبوع، أو كراهية مفت، أو تشدد طبع، أو تساهل نفس، أو عجب وغرور، أو تقدم ورياسة، أو مال وعيشة، أو مراعاة لمذهب، أو تعصب لطائفة، أو ابتلاء بمسألة، أو نشأة على رأي، أو اختيار متقدم، أو حاجة إلى حكم وهكذا؛ فمتى ما حصن المرء نفسه من هذه جميعاً وتوجه للحق بكليته، كانت الإصابة وكان الأجر، وإن لم يوفق للحق في المسألة، فقد أصاب المطلوب منه بما بذله من نفسه وعقله وروحه وقلبه في تطلب الحق، ومثل هذا القلب المستنير بمثل هذه المعاني جدير أن يستفتى ويراعى ساعة الاستفتاء، ومثله مقصود بقول النبي #: «استفتِ قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك»، ولا بد من وقفة مع هذا الحديث، فإلى الـمَعْلَم الرابع. الـمَعْلَم الرابع: استفتِ قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك: هذا الـمَعْلَم متصل بالمعلم السابق ومفرَّع عليه، وأصله مأخوذ من حديث وابصة الأسدي أنه قال: أتيت رسول الله #، وأنا أريد أن لا أدع شيئاً من البِر والإثم إلا سألته عنه، وإذا عنده جمعٌ، فذهبت أتخطى الناس، فقالوا: إليك يا وابصة عن رسول الله #! إليك يا وابصة! فقلت: أنا وابصة دعوني أدنو منـه؛ فإنه مـن أحب النـاس إليَّ أن أدنـو منه، فقال لي: «ادنُ يا وابصة! ادن يا وابصة!» فدنوت منه حتى مست ركبتي ركبـته، فـقال: «يا وابـصة! أخبـرك مـا جئـت تـسألني عـنه، أو تسألني؟» فقلت: يا رسول الله، فأخبرني! قال: «جئت تسألني عن البر والإثم»، قلت: نعم! فجمع أصابعه الثلاث فجعل ينكت بها في صدري ويقول: «يا وابصة! استفت نفسك(6)، البِرُّ ما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في القلب، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس. قال سفيان: وأفتوك»(7)، وقد تباينت مواقف العلماء من هذا الحديث، ومدى إعماله، وكيفية ذلك، والصواب أن النص ثابت صحيح، وأنه محل للعمل؛ وذلك في مجالات وأحوال، ترجع إلى طبيعة المستفتي وقلبه، وحال المفتي، وطبيعة الاستفتاء، وحال الفتيا، وتفصيل هذا الإجمال فيما يلي: 1 ـ أنه يشترط لتفعيل هذا النص أن يكون القلب سليماً كما تقدم، فالقصد هو الرب جل وعلا، لا تحصيل فتيا معينة، متابعة لهوى النفس ورغباتها؛ إذ القلب المشحون بالهوى مصروف به عن الحق؛ فأنى له أن يُستفتى، وهذا بيِّن بحمد الله؛ فهذا الحديث حرام على كل قلب مريض بشبهة أو شهوة. 2 ـ أن يعرض للمفتي أمر يدل على ضعف علم، أو قلة صدق، أو متابعة هوى أو غير ذلك، مما يطرح الثقة عنه، ويجرده عن لزوم المتابعة؛ إذ إن من اتصف بهذه الأوصاف فالأصل عدم الأخذ بفتياه، بل استفتاء القلب إن عرض للمستفـتي أمـر وظـهر على المفـتي أمـارات تعجُّل أو فتيا بظن أو ميل إلى هوى أو بغير حجة ولا دليل مشروع، بشرط أن يكون القلب سليماً من الآفات كما تقدم، وفي ذلك يقول الحافظ ابن رجب: (وهذا ـ أي الحديث السابق ـ إنَّما يكون إذا كان صاحبُه ممَّن شرح صدره بالإيمان، وكان المفتي يُفتي له بمجرَّد ظن أو ميلٍ إلى هوى من غير دليلٍ شرعي)(1)، ويقول الغزالي: (واستفتاء القلب إنما هو حيث أباح الشيء أما حيث حرم فيجب الامتناع ثم لا يعوَّل على كل قلب؛ فرب موسوس ينفي كل شيء، ورب متساهل نظر إلى كل شيء؛ فلا اعتبار بهذين القلبين، وإنما الاعتبار بقلب العالم الموفق المراقب لدقائق الأحوال، فهو المحك الذي تُمتحن به حقائق الصور وما أعز هذا القلب!)(2)، ويقول فخر الدين الرازي: (والضابط في جميع الأفعال والأقـوال والاعتـقادات أن كل ما كـان لطلب عبودية الله ـ تعالى ـ كان حسناً وإلا فلا، وههنا يظهر صدق ما روي في الأثر: «استفت قلبك ولو أفتاك المفتون» فليتأمل الرجل تأملاً شـافياً أن الذي أتـى به: هـل الحاصل والباعث عليه طلب العبودية أم لا؟ فإن أهل العلم لو أفتونا بالشيء مع أنه لا يكون في نفسه كذلك لم يظهر منه نفع ألبتة)(3). 3 ـ أما إن لم يظهر على المفتي المؤهل شيء يشي برد فتواه، وليس ثَمَّ معارض شرعي صحيح يحمل المستفتي على رد الفتيا، فليس له رد الفتيا استفتاءً للقلب، بل الواجب حمل القلب على قبول الأمر كما هو، والأصل أن المفتي هو العالم، والمستفتي جاهل؛ فأنى لهذا أن يرد كلام ذاك. يقول ابن رجب: (فأمَّا ما كان مع المفتي به دليلٌ شرعيٌّ، فالواجب على المستفتي الرُّجوعُ إليه، وإنْ لم ينشرح له صدرُه، وهذا كالرُّخَص الشرعية، مثل الفطر في السفر، والمرض، وقصر الصَّلاة في السَّفر، ونحو ذلك ممَّا لا ينشرحُ به صدور كثيرٍ مِنَ الجُهَّال؛ فهـذا لا عبـرةَ به، وقد كان النَّبيُّ # أحياناً يأمرُ أصحابَه بما لا تنشرحُ به صدورُ بعضهم، فيمتنعون من فعله، فيغضب منْ ذلك، كما أمرهم بفسخ الحجِّ إلى العمرة، فكرهه من كرهه منهم، وكما أمرهم بنحرِ هديِهم، والتَّحلُّل من عُمرة الحُديبية، فكرهوه، وكرهوا مقاضاتَه لقريش على أنْ يَرجِعَ من عامِه، وعلى أنَّ من أتاه منهم يردُّه إليهم)(4)، وهذا كلام جيد، وضـابط مهم، وبـين أنه ليس مما قبله في شيء؛ إذ عدم انشراح الـقلب ذاك لعـلم أو شـك معتـبر شرعاً كما قد تبين. أما (ما ورد النصُّ به، فليس للمؤمن إلا طاعةُ الله ورسوله، كما قال ـ تعالى ـ: {وَمَا كَانَ لِـمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْـخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، وينبغي أنْ يتلقى ذلك بانشراح الصَّدر والرِّضا؛ فإنَّ ما شرعه الله ورسولُه يجبُ الإيمانُ والرضا به، والتَّسليمُ له، كما قال ـ تعالى ـ: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّـمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. وأما ما ليس فيه نصٌّ من الله ورسوله ولا عمَّن يقتدى بقوله من الصحابة وسلف الأمة؛ فإذا وقع ـ في نفس المؤمن المطمئنِّ قلبه بالإيمان، المنشرح صدره بنور المعرفة واليقين ـ منه شيءٌ، وحكَّ في صدره لشبهة موجودة، ولم يجد مَنْ يُفتي فيه بالرُّخصة إلاَّ من يخبر عن رأيه، وهو ممن لا يُوثَقُ بعلمه وبدينه، بل هو معروفٌ باتباع الهوى، فهنا يرجعُ المؤمن إلى ما حكَّ في صدره، وإنْ أفتاه هؤلاء المفتون)(5)، ولو قدر أن المستفتي شك في فهم المفتي للسؤال، وحقيقة الحال، فليس له الأخذ بفتواه ما دام يعلم من نفسه وقلبه أنه طالب للحق، وطالب الحق إن وقف في مثل هذا الموقف لن يأخذ إلا بفتيا تنفعه مثلاً؛ لأن الحق مقصوده ومطلوبه، وهذا أمارة الصدق وعلامته، وإلا فكم من المستفتين غيـر الصـادقـين ممـن يجـزمـون بعـدم فهم المفـتي للواقعة بل قد يلبِّسون عليه في صورة الاستفتاء طلباً لفتيا معينة فيفتيهم بها فيتهللون ويفرحون ويحسبون أنهم على شيء، وأنهم قد تخلصوا من الإثم والمغرم، وأنهم قد جعلوها في رقبة عالم، ويقـولـون: من قلد عالماً لقي الله سالماً، ألا ساء ما يصنعون، ولا والله! ما هذا الصنيع بنافعهم في شيء، والله يعلم السر وأخفى، والله عليم بذات الصدور. يقول الغزالي: (فالمفتي يفتي بالظن، وعلى المستفتي أن يستفتي قلبه، فإن حاك في صدره شيء فهو الإثم بينه وبين الله؛ فلا ينجيه في الآخرة فتوى المفتي؛ فإنه يفتي بالظاهر، والله يتولى الســرائر)(6). ويـقول ابـن القـيم فـي كـلام جـامـع نفـيس: (لا يجوز العمل بمجرد فتوى المفتي إذا لم تطمئن نفسه وحاك في صدره من قبوله وتردد فيها لقوله #: «استفت نفسك، وإن أفتاك الناس وأفتوك» فيجب عليه أن يستفتي نفسه أولاً، ولا تخلصه فتوى المفتي من الله إذا كان يعلم أن الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه، كما لا ينفعه قضاء القاضي له بذلك كما قال النبي #: «من قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه؛ فإنما أقطع له قطعة من نار»، والمفتي والقاضي في هذا سواء ولا يظن المستفتي أن مجرد فتوى الفقيه تبيح له ما سأل عنه إذا كان يعلم أن الأمر بخلافه في الباطن سواء تردد أو حاك في صدره لعلمه بالحال في الباطن أو لشكه فيه أو لجهله به أو لعلمه جهل المفتي أو محاباته في فتواه أو عدم تقييده بالكتاب والسنة، أو لأنه معروف بالفتوى بالحِيَل والرخص المخالفة للسنة، وغير ذلك من الأسباب المانعة من الثقة بفتواه وسكون النفس إليها؛ فإن كان عدم الثقة والطمأنينة لأجل المفتي يسأل ثانياً وثالثاً حتى تحصل له الطمأنينة؛ فإن لم يجد فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، والواجب تقوى الله بحسب الاستطاعة)(1). الـمَعْلَم الخامس: حسن السؤال نصف الجواب: أركان الفتيا أربعة: مفت، ومستفت، وفتيا، واستفتاء. وواجب المفتي أن يؤدي فتيا مطابقة للاستفتاء في ضوء الشريعة، وواجب المستفتي أن يعطي سؤالاً طالباً حكم الشريعة، فإن أحسن فباب الغلط في الفتيا سيضيق، وإن كانت الأخرى فقد وسَّع باب الغلط، فواجب على المستفتي أن يؤدي سؤالاً صادقاً يعبر عن صدقه في تطلب الحق، وأن يصدق في وصف المسألة، وإلا كان ذلك أمارة وإشارة إلى كدرة بالقلب، وظلمة في النفس، وطمع في جواب يحقق للشخص مقصوده خارج إطار الحق، وهذه آفة لا حل لها إلا تصحيح النية، وإصلاح القلب، ومتى ما صلح القلب صلح سائر العمل ومتى فسد فسد سائر العمل، وإن آفة الآفات في كثير من الاستفتاءات، أن تكون مضمَّنةً معاني وإشارات إلى جواب معين محدد، يطلبه المسفتي محاولاً استصدار فتوى معينة من العالم؛ فتراه يسأل مثلاً عن أمر معين معدداً من الفواحش والمنكرات فيه ما يستوجب أن يكون فتيا العامي بالتحريم فكيف بالعالم، أو يهوِّن ويهوِّن طلباً للإباحة والترخيص، وأنَّى لهم الرخصة؟ فهذا النوع من الأسئلة الملغومة، والذي يُعرف وجه الجواب قبل استكمال السؤال، غير جائز ولا مشروع، إلا إن كان تعبيراً صادقاً مطابقاً للواقع، فإن كان بخلافه فكذب على الواقع، وتضـليل للمفتـي، ودَخَن في النـية، وأضـرب لك مثـلاً منه، وما أكثره في عالم الاستفتاءات، يدل على المقصود، وينبه على الفطنة التي يجب أن يتحلى بها المفتي، فلا ينجرف مع مثل هذا السؤال، فيقع الغلط والخلط. سئل الشيخ بن عثيمين في لقاء الباب المفتوح ما نصه: (فضيلةَ الشيخ: بالنسبة لمنظمة حماس الموجودة الآن في الأرض المحتلة وما تقوم به من عمليات انتحارية وغيرها ضد اليهود، هل هذا العمل شرعي؟ علماً بأنها قد تكون سبباً في انتقام اليهود بأشد مما قام به أعضاء هذه المنظمة، وكذلك قيامهم ضد دولتهم الجديدة هل هو شرعي؟) فكان جواب الشيخ ـ رحمه الله ـ: (نسمع أنهم يقومون بعمليات ضد اليهود، ونحن نرى أن اليهود أهل غدر وخيانة، ولا يمكن أن يفوا لأحد، وإن تظاهروا بما يتظاهرون به، فوراء هذا التظاهر ما وراءه من الشر، وإذا كانوا لم يفوا بالعهد لأشرف البشر محمد # فكيف بمن دونه؟! نفهم أن اليهود أهل غدر وخيانة، وأما عملية حماس أو غيرها فنقول للسائل: إذا كنت مندوباً عنهم، فأثبت لنا ذلك ونحن نفتيك إن شاء الله)(2). والمقصود أن المخلِص الصادق في السؤال يجب عليه أن يصـوغ سؤاله في قالب محايد لا يوجه المفتي لقول دون آخر، بل يتـجرد في الـمَخْبَر والصـورة ليتجرد له الحق بإذن الله، فإن الفتيا متى ما وقعت على وجهها وصورتها في الواقع ففتيا صحيحة، وإلا كانت فتيا باطلة لا يعذر المستفتي بالعمل بها، وكم ترى من خلاف تظنه بين العلماء والمفتين، وحقيقته أنه عائد إلى اختلاف أسئلة المستفتين، وما يرومونه من إجابات. وخاتمة المقال وزبدته ولبابه، والذي عليه المدار في شأن الاستفتاء إصلاح الباطن؛ فإنه متى ما صلح صلح الظاهر، ومتى ما فسد فسد الظاهر جزاء وفاقاً، وإن هذا الصلاح والإصلاح واجب متعين على المستفتي، إن أداه وصدق فيه؛ فهو الموفق في أمر استفتائه، أصاب الحق أم أخطأه، وإن ضل عنه لم ينفعه صلاح الفتيا، بل عليه وزر الفساد، وواجب المستفتي لا يخرج عما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية في كلمة مختصرة له حيث قال: (وإذا نزلت بالمسلم نازلة فإنه يستفتي من اعتقد أنه يفتيه بشرع الله ورسوله من أي مذهب كان)(3)؛ فهو يطلب من يفتيه بشرع الله ورسوله لا لشهوته وهواه. أسأل الله الكريم أن يصلح نياتنا وأعمالنا وأحوالنا إنه خير مسؤول، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. -------------------------------------------------------------------------------- (1) التعالم 31. (4) تعظيم الفتيا 113. (2) رواه البخاري 5231، ومسلم 2671، والترمذي 2205، وابن ماجه 4045، والإمام أحمد في المسند 12395. (5) أدب المفتي والمستفتي 80. (3) أدب المفتي والمستفتي 80. (6) صفة الفتوى والمفتي والمستفتي 11. (7) إعلام الموقعين 6/118. (1) الصواعق المرسلة 2/5119. (2) ومن الكتب المصنفة في هذا: الإنصاف في التنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف لابن السيد البطليوسي، ورفع الملام عن الأئمة الأعلام لابن تيمية، والإنصاف في بيان أسباب الاختلاف لولي الله الدهلوي، والخلاف بين العلماء أسبابه وموقفنا منه للشيخ ابن عثيمين. (3) الفتاوى 14/159. (4) الموافقات 5/221. (1) الموافقات 5/140. (2) الفتاوى 19/261. (3) رواه أبو داود 336، وابن ماجه 572، والإمام أحمد في المسند 3048، صححه أحمد شاكر في تحقيقه على المسند 5/22، وحسَّن إسناده الألباني في صحيح أبي داود 337. (4) وقد تتجرد من الثاني، إن كان القصد معرفة الحكم فقط، وذلك بحسب السؤال، وطبيعة الاستفتاء. (1) وقد رفعه بعضهم للنبي #؛ لكنه ضعيف جداً. انظر السلسلة الضعيفة 2481، كما رواه الحاكم عن أبي هريرة من لفظه، وكذا الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 1/195 لكنه ضعيف، العبارة مشهورة عن محمد بن سيرين ـ رحمه الله ـ رواها عنه الإمام مسلم في مقدمة الصحيح، انظر شرح صحيح مسلم 1/84، ومن العبارات القريبة منها قول أنس بن سيرين: اتقوا الله يا مشر الشباب! انظروا عمن تأخذون هذه الأحاديث؛ فإنها من دينكم. رواه الخطيب في الجامع 1/196. (2) وينسب لعلي رضي الله عنه، انظر تاج العروس 20/153، وسبل السلام 4/187، ومما ذكره صاحب إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون، كتاب لعبد الغني ابن إسماعيل النابلسي بعنوان زيادة البسطة في بيان العلم نقطة، وللشيخ أحمد الجزائري رسالة في شرحها. (3) جامع بيان العلم وفضله 1/148. (8) التعالم 10، 41. (4) جامع بيان العلم وفضله 1/148. (9) إعلام الموقعين 6/131. (5) جامع بيان العلم وفضله 1/148، ولا يخفى أن الإطلاق غير مقصود، لكن لو سكت من لا يعلم لسقط الكثير بلا ارتياب. (10) تعظيم الفتيا 70. (6) مداواة النفوس 23. (11) أدب المفتي والمستفتي 1/86. (7) وغاب عني الآن قائل هذه الكلمات. (12) وتجد الكلام مفصلاً في جمهور كتب الأصول. (1) مجموع الفتاوى 27/296. (2) رواه أبو داود 3657، وابن ماجه 53، والإمام أحمد في المسند 8558، وصحح إسناده الشيخ أحمد شاكر في تحقيقه على المسند 16/118، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود 3657. (3) شرح سنن ابن ماجه، القزويني 1/27. (1) الفقيه والمتفقه 2/378. (2) مجموع الفتاوى 20/224. (3) الموافقات 5/81. (4) رواه البخاري 7352، ومسلم 1716، وأبو داود 3574، والترمذي 1326، والنسائي 5381، وابن ماجه 2314، والإمام أحمد في المسند 17320. (5) الموافقات 5/90. (6) الموافقات 5/96. (1) الموافقات 5/76. (2) الموافقات 5/81. (3) روضة الناظر 1/385. (4) إعلام الموقعين 6/205. (5) إعلام الموقعين 6/136. (6) وعند الدارمي 2533 وغيره (قلبك). (7) رواه الإمام أحمد في المسند 17540، وحسَّن إسناده النووي في الأذكار 504، والأربعين النووية 27، والشوكاني في إرشاد الفحول 2/284، والألباني في صحيح الترغيب 1734. (1) جامع العلوم الحكم 2/102. (2) البحر المحيط في أصول الفقه 4/402. (3) التفسير الكبير 18/84. (4) جامع العلوم والحكم 2/102. (5) جامع العلوم والحكم 2/103. (6) إحياء علوم الدين 2/103. (1) إعلام الموقعين 6/192. (2) لقاء الباب المفتوح 3/178. (3) الفتاوى 20/209. ============================================== منقووووووووووووووووووووول للفائدة المصدر : مجلة البيان |
طالما اننا في بلد يتوفر به جهات رسمية للإفتاء ،
فأعتقد أن لجوءنا لغير هذه الجهة ، لامبرر له. فالله سبحانه وتعالى يقول: "وأطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم" وفي هذا توجيه واضح ، فمن كلفه ولي الأمر بهذه المهمة هو من يجب اللجوء اليه في طلب الفتياء. شكرا لك أخي الكريم مع أطيب تحياتي |
[quote]طالما اننا في بلد يتوفر به جهات رسمية للإفتاء [/quote]
الحمد الله رب العالمين :) [quote]فأعتقد أن لجوءنا لغير هذه الجهة ، لامبرر له.[/quote] أما لا مبرر له فهذا قول خاطيء ... بل الحق والفتوى تأخذ من كل مجتهد اجتمعت فيه شروط المجتهد من علماء المسلمين .. ولايمكن حصرها في هيئة الإفتاء .. بل كل من توفرت به الشروط وأعتقد العامي المستفتي أنه على الحق واجتمعت له شهادة المسلمين بالصلاح والحق فهو ممن تأخذ فتواه ... فالإسلام لم يحصر الفتوى في هيئات أو شخوص دون آخرين .. [quote]فالله سبحانه وتعالى يقول: "وأطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم" وفي هذا توجيه واضح ، فمن كلفه ولي الأمر بهذه المهمة هو من يجب اللجوء اليه في طلب الفتياء[/quote] لم يحصر ولي أمر المسلمين المستفتين في هيئة الإفتاء ... ولم يصدر عن ولاة الأمر مايوجب ذلك ... ولايستطيعون أن يصدروا أمراً مخالفاً للشريعة لأن الدولة نظامها ودستورها هي كتاب الله وسنة نبيه والتي لم تحصر الفتوى في علماء دون علماء إلا أن يكون العلماء المحصور فيهم الفتوى هم العلماء الوحيدون المتبقون من أهل الحق دون غيرهم فيستساغ ذلك الأمر الذي يحصرها ... [quote]شكرا لك أخي الكريم مع أطيب تحياتي[/quote] أهلاً بك ياوالدي الكريم :) |
رد: واجب المسلمين عند اختلاف المفتين((جد
جزاك الله كل خير
على هذا الموضوع المفيد والقيّم |
رد: واجب المسلمين عند اختلاف المفتين((جد
جزاك الله كل الخير عنا
صعووب |
رد: واجب المسلمين عند اختلاف المفتين((جد
ذيب
كلام جميل وموضوع شيق للقايه ومهم لاهنت اخي |
رد: واجب المسلمين عند اختلاف المفتين((جد
[center][glow=003333][size=6][font=comic sans ms][color=#ffffff][color="deepskyblue"]
[color=#00ccff][size=7] [color="plum"]موضوع بغايه الروعه جزاااك الله خير [/color][/size][/color] [/color] [/color][/font][/size][/glow][/center] |
رد: واجب المسلمين عند اختلاف المفتين((جد
مشكوووووووووووور
جزاك الله خيرا |
مشكور
على المعلومه الجيده تحياتي |
بارك الله فيك
كتبت فقرأت فاستفدنا تحياتي واحترامي |
الساعة الآن 02:17 AM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لمنتديات الفطاحلة