عرض مشاركة واحدة
قديم 22-10-2007, 05:49 AM   رقم المشاركة : 7
الطائر المهاجر
** (عثمان العبدالله) ** المؤسس والمشرف العام
 الصورة الرمزية الطائر المهاجر





معلومات إضافية
  النقاط : 20
  الحالة : الطائر المهاجر متواجد حالياً

 

افتراضي رد: كل ماترغب معرفته عن الشعر العربي


الشعر السياسي. ارتبط الشعر العربي برؤية الشاعر السياسية منذ العصر الجاهلي، فالقبيلة العربية هي الصورة المصغرة للدولة، والشاعر لسان حال هذه القبيلة. ومن ثم كان شعره يتّصل بمواقف هذه القبيلة احتجاجًا عليها أو تأييدًا لها. ويفسّر ذلك احتفال العرب بالشاعر أكثر من احتفالها بالكاتب. فالشاعر هو الذي يرفع مكانتها بين القبائل الأخرى.
وفي عهد النبوة، كان حسان بن ثابت شاعر الرسول ³ ورهطه من الشعراء المسلمين يقفون موقفًا سياسيًا، حين ينافحون عن الدعوة، ويذودون عنها، ويردون كيد شعراء المشركين في نحورهم.
ولكن الشعر السياسي اُتخذ غرضًا شعريًا قائمًا بذاته مع بداية الدولة الأموية، حين انقسم المسلمون عقب معركة صفين إلى طوائف وأحزاب أهمها الخوارج والشيعة والزبيريون والأمويون.
ومن هذا التاريخ، أصبح لهذه الأحزاب السياسية شعراء يتحدثون عن مبادئها وتوجُّهاتها، فتحوَّل الشِّعر إلى إطار سياسي تحكمه أهداف ومناهج، ويقوم على نظرية محددة المبادئ في الحكم وتأييد الحزب الذي يرفع الشاعر رايته ويدعو له. هذا الشعر لم يكن دعوة سياسية قائمة على البرهان والحوار العقلي فقط، ولكنه يمور بمشاعر صادقة ولا يخلو من النسيب والهجاء والمدح. وأهم هذه الفرق:

الخوارج. وهي الفرقة التي خرجت على علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) حين قبل التحكيم بينه وبين معاوية. وتقسمت إلى طوائف، منها الشُّراة والحَرُوريَّة والمُحَكِّمة وكان أكثرهم من الأسد اليمانية وتيم المُضرية. وتقوم دعوتهم على أن الخلافة لمن يصلح لها من المسلمين وليست لجنس أو طبقة. وقد شارك الخوارج بشعرهم في طرح نظريتهم السياسية. ويمتاز شعرهم بأنه أصدق صورة أدبية لمذهب ديني سياسي. وقد احتفظوا بسَمْتِهِم البدوي فجاء شعرهم صريحًا جريئًا قويًا جمع صدق الشعور وقوة العقيدة وسلامة الخُلق والطبع. كما يمثل صورة للشعر الذي نشأ في ظل الإسلام، وتأدب بآدابه فأخذ من بلاغة القرآن ومن السُّـنَّة المطهَّرة. ويلفت النظر أن شعراء الخوارج هم زعماء المذهب وحملة السيوف، ولذلك لم يظهر منهم فحول إذ كانوا في عجلة من أمرهم للفراغ من الشعر للدخول في المعركة، فمعظم شعرهم مقطوعات لا قصائد، في إيقاع قوي، وموضوعه الجهاد والشهادة والتحذير من القُعود والاستبشار بأولئك الذين نالوا الشهادة. وشعرهم أكثر أشعار الفرق بعدًا عن المدح أو الفخر أو الغزل وأكثر دورانًا حول الحماسة ومواقف الجهاد الثائرة. وقد أفنى شعراء الخوارج عصبيّاتهم القبلية والعرقية في عقيدتهم المذهبية. ومن أشهر شعراء الخوارج عمران بن حطَّان الذي يقول:
لقد زاد الحيـــاة إليّ بغــضًا وحبًـــا للخــــروج أبو بــــلال
أحاذر أن أموت على فراشي وأرجو الموت تحت ذُرى العوالي
ولو أني علمـت بأن حتــفي كحتــف أبي بــلال لـم أبـــال

وكان منهم شاعرات مثل أم حكيم، ومن قولها:
أحمل رأسًا قد سئمت حَمْلَهُ
وقد مللـــت دهنـــه وغَسْـلَــهُ
ألا فتىً يحمــل عني ثِقْلَـــهُ

كما ذاع شعر قطري بن الفجاءة ومنه قوله، في تثبيت النفس وحضها على الجهاد:
أقـول لهــا وقد طارت شَعَاعًا من الأبــطال ويحــك لا تـراعي
فإنك لو سألــت بــقاء يـــوم على الأجل الذي لك لم تطاعي
فصبرًا في مجال الموت صبرًا فما نيـــل الخلــــود بمستطاع

وكذلك الطِّرِمّاح بن حكيم في قصيدته:
وإني لمقتادٌ جوادي وقاذف به وبنفسي العام إحدى المقاذف

الشيعة. وهم الحزب الثاني الذي كان نظيرًا للخوارج في مواجهته لبني أمية. وتقوم نظريتهم السياسية على أن حق الحكم يجب أن يكون لعربي قرشي هاشمي، ومن هنا اتصل العداء بينهم وبين بني أميّة حين تحول الحكم إلى البيت الأموي.
يجمع شعر الشيعة بين الاحتجاج والتصوير، الاحتجاج في حقهم في الحكم والتصوير لما أصاب آل البيت من محن وكوارث، ثم مدح آل البيت ورثاء أئمّتهم وهجاء بني أمية والزبيريين. ويختلف شعراء الشيعة عن الخوارج في أن الشيعة تكسبوا بالشعر واحترفوه، فمدحوا وتغزلوا وهجوا. وكان منهم الشعراء الفحول الذين وقفوا أنفسهم على الشعر والاحتجاج به لمذهبهم؛ فكتبوا القصائد الطوال دون المقطوعات. كما يعكس شعرهم بعض مبادئهم. ومن أشهر شعرائهم الكميت الأسدي الذي تزعم الاحتجاج في هاشمياته. انظر: الكميت.
ومن أشهر هاشمياته البائيَّة واللاميّة. يقول مطلع الأولى:
طربتُ وما شوقًا إلى البيض أطرب ولا لعبًا مني، وذو الشيب يلعبُ

ومطلع اللامية:
أَلا هل عَمٍ في رأيه متأمل وهل مدبــر بعـد الإساءة مقبل؟

وكذلك دِعْبِل الخُزاعي الذي عُني بالتصوير المؤثر لمصائب آل البيت خاصة في تائيته المشهورة:
مدارس آيات خلت من تلاوة ومنـزل وحـيٍ مُقْــفِر العَرَصَات

ثم أيمن بن خريم ومن مشهور شعره قصيدته التي يقول في أولها:
نهاركم مكابدة وصوم وليلكـــم صـــــلاة واقــــتراء
الزبيريون. أما أتباع عبدالله بن الزبير فقد عرفوا بالزبيريين. وتقوم نظريتهم على حق الأرستقراطيّة القرشية في الحكم وأن الخليفة يجب أن يكون بالضرورة عربيًا قرشيًا. أسس هذا الحزب عبدالله بن الزبير، وآزره أخوه مصعب.وكان مصعب أكثر عطاءً للشعراء فالتفُّوا من حوله، وأذاعوا مبادئ حزبه السياسية. ويعد عبدالله بن قيس الرقيات شاعرهم المقدم وكان يمزج الغزل بالسياسة وبالمدح. ومن شعرائهم أيضًا أعشى همدان ودكين الفُقَيمي. ومن أشهر قصائد ابن الرقيات قوله:
أقفرتْ بعد عبد شمس كداء فكُدَيٌّ فالركن فالبطحاء
حبذا العيش حين قومي جميعٌ لم تفرق أمورَها الأهـواء
قبل أن تطمع القبائل في ملك قريش وتشمتَ الأعـداء

الأمويون. أما الأمويون فهم الحزب الذي استأثر بعداء كل تلك الأحزاب؛ إذ كان يمثل السلطة الحاكمة، وكان الشعراء لذلك يقدمون إلى بلاط بني أميّة للفوز بجوائزهم ومن ثم كثروا وتعددوا ولكن من أشهرهم النابغة الشيباني وعدي بن الرقاع كما مدحهم الأخطل وجرير.
هذه الفرق الأربع هي أهم الأحزاب السياسية التي اكتمل على يديها الشعر السياسي فخرجت به من مجال الرؤية المحصورة إلى مجال أرحب وأوسع، حين جعلت السياسة جزءًا أصيلاً من البنية الشعرية والأدبية.

الزهد ولواحقه. لا شك أن هذا اللون مدين للإسلام، منذ كان غناءً بقيم هذا الدين وفضائله لدى شعراء الرسول ³. وفي العصر الأموي، عبر شعر الفِرق الإسلامية عن معاني الزهد والتقوى، وبخاصة لدى الخوارج؛ إذ تشيع في أشعارهم معاني الإعْراض عن الدنيا وزخارفها والتطلع إلى الآخرة في إطار شعر الحماسة والتعبير عن المعاني الفدائية. يقول شاعرهم:
مارغبة النفس في الحياة وإن عاشت قليلاً فالموت لاحقها
وأيقنــت أنهــا تعـود كمــا كان براهـا بالأمـس خالقهـا
من لم يمت عَبْطَةً يمت هرمًا والمـوت كأس والمـرءُ ذائقها

وقد شهد العصر الأموي أئمة من أهل العلم والتقوى، منهم: الحسن البصري، وكان لأولئك الأئمة تأثيرهم في الشعر الديني، بل إن من الفقهاء من عرف بالشعر الديني مثل: عروة بن أذينة فقيه المدينة. ومن شعراء الزهد في هذا العصر عبدالله بن عبدالأعلى، ومِسكين الدارمي، ولهذا الأخير قصيدة ذكر فيها طائفة من الشعراء ناسبًا قبر كل شاعر إلى بلده ومسقط رأسه، مع التهوين من أمر الدنيا والزهادة فيها والاعتبار بالموت. ومن الشعراء الزهاد في العصر الأموي، أيضًا، أبو الأسود الدؤلي، وسابق البربري قاضي الرقة بالموصل وإمام مسجدها، وممن كانوا يفدون على عمر بن عبد العزيز ليعظه. يقول الجاحظ عن شعر سابق هذا: ¸لو أن شعر سابق البربري كان مفرّقًا في أشعار كثيرة لصارت تلك الأشعار أرفع مما هي عليه بطبقات•.
وفي العصر العباسي، قوي شعر الزهد، وظهر تيارًا قويًا واقفًا في مواجهة شعر الخمر والمجون الذي تزعمه أبو نواس وحماد عجرد ومطيع بن إياس. ومع انتشار الفسق والمجون في المجتمع العباسي، فإن التدين قد انتشر في مواجهته، وكان شعر الزهد، بل أدب الزهد ولواحقه، يمثل جبهة المواجهة الصلبة ضدّ هذا التيار.
وأقوى شعراء الزهد فى العصر العباسي الأول محمود الوراق، فقد عبر، أكثر من غيره، عن معاني الزهادة والتقوى كالمبادرة إلى العمل الصالح والتسليم بقضاء الله تعالى والتوكل عليه والقناعة والصبر عند النوازل واتخاذ الحديث عن الشيب نذيرًا بالموت، والعفو عمن ظلم. ثم هناك من شعراء الزهد طائفة من الفقهاء والمذكِّرين النسّاك مثل: مالك بن دينار وعبدالله بن المبارك بل إن الخليل بن أحمد العالم اللغوي النحوي كانت له أشعار في الزهد.
وفي العصر العباسي الثاني وما يليه، ظل لتيار أشعار الزهد قوته، ثم ظهرت موجة أخرى رافقت الزهد، تلك هي موجة التصوف التي يعاب عليها اقتباسها عناصر غير إسلامية تتعارض مع توحيد الله وتنزيهه، ومن هؤلاء الجنيد وتلميذه الحلاّج والشبليّ، وإن كان هذا الأخير أكثر اعتدالاً، وكان ينكر على الحلاج، خاصة، شعوذاته.
وينبغي ألا تفوتنا الإشارة إلى أبي العتاهية أشهر شعراء الزهد في العصر العباسي قاطبةً، ويذكر له في مجال الفن الشعري الخالص إحداثه تطورًا ملحوظًا فيه غير هيّاب سواء في العروض حيث استخدم مقلوب بحر البسيط كما ولَّد في الشعر معاني جديدة.
وفيما بعد العصر العباسي، تشتد موجة الشعر الديني عمومًا بل تصبح موجات قوية هادرة، فيظهر جيل جديد من شعراء التصوف القائلين بالحلول وغيره من شعوذات المتصوفة وتجاوزاتهم كعمر بن الفارض. كما يتزايد شعر المديح النَّبويّ، وأشعار الزهد. وكانت هذه التيارات الشعرية رجعًا قويًا للمحن الثقال التي تعرضت لها الأمة علي أيدي الصليبيين والمغول. وأبرز شعراء التيار الديني: البوصيري شاعر المديح النبوي في مصر وعفيف الدين التلمساني وعبد الغني النابلسي في ديار الشام.
وفي العصر الحديث، ينشد محمود سامي البارودي قصائد دينية في مديح رسول الله ³، ويضمّن هذا المديح شكواه أثناء منفاه في سرنديب، كما يضمنه بعض آرائه في فلسفة الحرب فيقول مثلاً:
ذاقوا الردى جرعًا فاستسلموا جزعًا للصلح، والحرب مرقاةٌ إلى السِّلْم

أما أحمد شوقي فمدائحه تعبِّر عن آرائه الإصلاحية في الدين والحياة، فيقول مثلاً مخاطبًا النبي:
والحرب في حقٍ لديك شريعة ومن السموم الناقعات دواء
الحكمة. شعر الحكمة هو ذلك الشعر الذي تضمن خلاصة مالدى الشعراء من تجارب العقل والحياة. ويعد زهير أشهر شعراء الحكمة في العصر الجاهلي، ومعلقته الشهيرة مزيج من المديح لهرم بن سنان والحارث بن عوف، ووصف أهوال الحروب ومفاسدها، رغبة منه في إقناع المتحاربين بالمصالحة والسلام، في أسلوب من الحكمة التي تمنح معلقته بعدًا إنسانيًا رفيعًا. ولم تخل حكمة شعراء الجاهلية من تسجيل أفكار العرب في هذه الحقبة وتصوير مثلهم وتجارب حياتهم.
ولا شك أنَّ الكثير مما سجله شعراء الإسلام، في عصر النبوة خاصة، حافل بآراء إسلامية عن العقيدة تعد هي الأخرى من قبيل الحكمة.
ويأتي العصر العباسي فيلقانا ثلاثة من فحول شعرائه في الحكمة: أبو تمام والمتنبي وأبو العلاء المعري.
وتبدو الحكمة عند أبي تمام ثمرة ثقافاته الواسعة التي تمخض عنها العصر، وهي تتناثر في مدائحه وحماسياته ومراثيه في ابنيه وزوجته وابن حميد الطوسي، بل في غزله ونسيبه.
وأبو تمام هو الذي ترك ميراثه من الحكمة خاصة يفيد منه أبو الطيب المتنبي، ويتمثله بقريحته العبقرية ويمضي بالحكمة أشواطًا بعيدة ، وكان المتنبي شديد الشغف بشعر أبي تمام لا يكاد يفارق ديوان شعره في أسفاره، ولا شك أنه بما أوتي من ثقافات عصره، وهي غزيرة متنوعة، قد أصاب حظًا أوفر من الحكمة في شعره: عمقًا وجمال صياغة. وهي تتناثر في أشعاره المختلفة الأغراض. والمتنبي وإن أفاد من حكماء العرب واليونان، فإنه كان نسيجَ وحدِه بلا مدافع. أما أبو العلاء المعري فقد تحولت الحكمة لديه إلى فلسفة أوسع مدى وأعمق.

رثاء المدن والممالك. عرف الأدب العربي رثاء المدن غرضًا أدبيا في شعره ونثره. وهو لون من التعبير يعكس طبيعة التقلبات السياسية التي تجتاج عصور الحكم في مراحل مختلفة.
وهذا النوع من الرثاء لا يقف في حدود عند رثاء المدن وحدها حين يصيبها الدمار والتخريب ولكنه يتجاوز ذلك إلى رثاء الممالك تارة والعصور تارة أخرى. بل قد يرثي الدولة بأسرها؛ كما حدث ذلك في الأندلس. وقد تميز هذا الغرض من رثاء المدن في الشعر أكثر من تميزه في النثر.
ويُعد رثاء المدن من الأغراض الأدبية المحدثة، ذلك أن الجاهلي لم تكن له مدنٌ يبكي على خرابها، فهو ينتقل في الصحراء الواسعة من مكان إلى آخر، وإذا ألم بمدن المناذرة والغساسنة فهو إلمام عابر. ولعل بكاء الجاهلي على الربع الدارس والطلل الماحل هو لون من هذه العاطفة المعبّرة عن درس المكان وخرابه.
رثاء المدن في المشرق. عرف المشرق قدرا من هذا الرثاء شعرًا، عندما تعرضت عاصمة الخلافة العباسية للتدمير والخراب خلال الفتنة التي وقعت بين الأمين والمأمون. فنهبت بغداد وهتكت أعراض أهلها واقتحمت دورهم، ووجد السّفلة والأوباش مناخًا صالحا ليعيثوا فسادا ودمارا. وقد عبر الشاعر أبو يعقوب إسحاق الخريمي، وهو شاعر خامل الذكر، عن هذه النَّكبة في مرثيته لبغداد فقال:
يابؤس بغداد دار مملكة دارت على أهلها دوائرها
أمهلها الله ثم عاقبها حين أحاطت بها كبائرها
بالخسف والقذف والحريق وبالحرب التي أضحت تساورها
حلّت ببغداد وهي آمـنة داهية لم تكن تحاذرهـا

ثم كان خراب البصرة على يد الزنج في ثورتها المشهورة. فأشعلوا فيها الحرائق وحولوها إلى أنقاض ودمار، فوقف الشاعر ابن الرومي مذهولا بما حدث فقال:
كم أخ قد رأى أخاه صريعا تَرِبَ الخد بين صرعى كرام
كم مفدّى في أهله أسلموه حين لم يحْمه هنالك حامي
كم رضيع هناك قد فطموه بشبا السيف قبل حدّ الفطام

وبالإضافة إلى هاتين المرثيتين، حفل ديوان رثاء المدن في المشرق، بطائفة من القصائد تتحدث عن تلك المدن التي اسقطها هولاكو وتيمور لنك.
وكذلك استثارت نكبة بغداد على يد هولاكو عاطفة عدد من الشعراء مثل شمس الدين الكوفي، ومن أبياته قوله:
إن لم تقرّح أدمعي أجفاني من بَعْدِ بُعْدِكُمُ فما أجفاني
إنسان عيني مذ تناءت داركم ما راقـه نظــــر إلى إنســان
مالي وللأيام شتت خطبها شملي وخــلاني بلا خلان
ما للمنازل أصبحت لا أهلها أهلي ولا جيرانهــا جيـراني

وتعد مرثبة الشيخ تقي الدين إسماعيل بن إبراهيم التنوخي في القرن السابع الهجري أشهر مراثي بغداد حين خربها هولاكو. يقول في آخر القصيدة:
إن القيامة في بغداد قد وجدت وحدّها حين للإقبال إدبار
آل النبي وأهل العلم قد سُبيوا فمن ترى بعدهم تحويه أمصار
ماكنت آمل أن أبقى وقد ذهبوا لكن أتى دون ما أختار أقدار

وكذلك كان رثاء دمشق عندما سقطت في أيدي التتار فتعاقب على رثائها كثير من الشعراء مسجلين ذلك الحدث ومنهم الشاعر علاء الدين العزولي في قوله:
أجريت جمر الدمع من أجفاني حزنا على الشقراء والميـدان
لهفي على وادي دمشق ولطفه وتبدل الغزلان بالثيــــــران
واحسرتاه علي دمشق و قولها سبحان من بالغل قد أبلاني
لهفي عليك محاسنا لهفي عليـ ك عرائسا لهفي عليك مغانـي
ولكن هذا اللون في المشرق لم يزدهر ازدهاره في الأندلس، ويعزى ذلك إلى أن طبيعة التقلبات السياسية في الأندلس كانت أشد حدة وأسرع إيقاعا، وأنها اتخذت شكل المواجهة بين النصارى والمسلمين حين تجمع الصليبيون عازمين على طرد المسلمين وإخراجهم من الأندلس.
رثاء المدن في الأندلس. كان هذا الغرض في الأندلس من أهم الأغراض الشعرية، إذ كان مواكبًا لحركة الإيقاع السياسي راصدًا لأحداثه مستبطنًا دواخله ومقومًا لاتجاهاته.
وكان محوره الأول يدور حول سلبيات المجتمع الأندلسي بسبب ما انغمس فيه الناس من حياة اللهو والترف والمجون وانصراف عن الجهاد. وأن الأمر لن يستقيم إلا برفع علم الجهاد تحت راية لا إله إلاالله. ومن هنا فالصوت الشعري لرثاء المدن في الأندلس يخالف الأصوات الشعرية الأندلسية الأخرى التي ألفها أهل الأندلس في الموشحات ووصف الطبيعة والغزل وبقية الأغراض الأخرى.
ويلفت النظر أن عددا من قصائد رثاء المدن في الأندلس لشعراء مجهولين؛ ويُفَسَّرُ ذلك إما بخشيتهم من السلطان القائم بسبب نقدهم للأوضاع السياسية وإما أن عنايتهم بالحس الجماعي واستثارته كانت أكثر من عنايتهم بذواتهم الشاعرة.
يقوم هذا الرثاء على مقارنة بين الماضي والحاضر؛ ماضي الإسلام في مجده وعزه، وحاضره في ذله وهوانه. فالمساجد غدت كنائس وبيعًا للنصارى وصوت النواقيس أضحى يجلجل بدلا من الأذان، والفتيات المسلمات انتهكت أعراضهن، والدويلات المسلمة تستعين بالنصارى في تدعيم حكمها. وتمتلئ كل هذه النصوص بشعور ديني عميق يطفح بالحسرة والندم.
كان سقوط مدينة طليطلة في أواخر القرن الخامس الهجري بداية المأساة؛ فهي أول بلد إسلامي يدخله الفرنجة وكان ذلك مصابا جللا هزّ النفوس هزًا عميقًا. يقول شاعر مجهول يرثي طليطلة في قصيدة مطلعها:
لثُكلكِ كيف تبتسم الثغور سرورًا بعدما سبيت ثغور
طليطلة أباح الكفر منها حماها إنّ ذا نبــأ كبـــير

وفي هذه القصيدة التي بلغت سبعين بيتا تصوير لحال المسلمين عشية سقوطها وما أصابهم من ذل وصغار، كما تصور ماضيها المجيد وحاضرها المهين. وتنتهي بأمنية مشتهاة أن يخرج من أصلاب المسلمين بطلٌ كطارق بن زياد يعيد الأمر إلى نصابه:
ألم تك معقلا للدين صعـبا فذلّله كما شاء القديـــر
وأخرج أهلها منها جميعــا فصاروا حيث شاء بهم مصير
وكانت دار إيمان وعلـم معالمها التي طمست تنــير
مساجدها كنائس، أي قلب على هذا يقر ولا يطـير
فيا أسفاه يا أسفاه حزنــا يكرر ما تكررت الدهـور

ثم تختم المرثية بهذه الأمنية:
الاّ رجل له رأي أصيــــل به مِمّا نحاذر نستجـــــــــير
يكُرّ إذا السيوف تناولــته وأين بنا إذا ولت كــــــــرور
ويطعن بالقنا الخطار حتى يقول الرمح من هذا الخطــير ؟

وتعد مرثية الشاعر ابن الأبار لمدينة بلنسية من المراثي المشهورة في الأندلس، فقد أرسل بها على لسان أميره إلى أبي زكريا بن حفص سلطان تونس مستنجدا به لنصرة الأندلس ومطلعها:
أدرك بخيلك خيل الله أندلسا إن السبيل إلى منجاتها درســـا
وهب لها من عزيز النصر ما التمست فلم يزل منك عزّ النصر ملتمسا

ويحكي هذا النص يأس أهل الأندلس من حكامهم المسلمين ومن ثم توجهوا لطلب النصرة من خارج الأندلس كما تصور حال بلنسية وقد تحولت المساجد إلى كنائس وفرض الكُفر سلطانه على الجزيرة وأن الذي أصاب بلنسية يوشك أن يصيب باقي المدن الأندلسية:
مدائن حلها الإشراك مبتسما جذلان، وارتحل الإيمان مبتئسا
ياللمساجد عادت للعدا بيعا وللنداء غدا أثناءها جرسـا

ثم يلتفت إلى أبي زكريا سلطان تونس قائلا:
طهّر بلادك منهم إنهم نجس ولا طهارة ما لم تغسل النجسا
وأوطئ الفيلق الجرار أرضهم حتى يطأطئ رأسا كل من رأسا
وأملأ هنيئًا لك التأييد ساحتها جرُدًا سلاهب أو خطية دُعُســا

وأما مراثي الممالك فمن أشهرها مرثية أبي محمد، عبد المجيد بن عبدون التي رثى بها قتلى بني الأفطس أصحاب بطليوس ومطلعها:
الدهر يفجع بعد العين بالأثر فما البكاء على الأشباح والصور؟

وفيها يقول:
أنهاك أنهاك لا آلوك موعظة عن نومة بين ناب الليث والظفر

وفي هذه المرثية، يحشد ابن عبدون الكثير من أحداث التاريخ وتقلباته ويحكي ما أصاب الدول والممالك من مآسٍ ومحن متخذا من ذلك سبيلا للعظة والتأسي. وتمتاز القصيدة على طولها بحاسة شعرية قوية وعاطفة جياشة تزاوج بين مأساة بني الأفطس الذاتية والسياسية.
ومن أهم المراثي التي ربطت بين المأساة الذاتية والسياسية قصيدة أبي بكر بن عبد الصمد في رثاء مملكة إشبيليا وأميرها الشاعر المعتمد بن عباد:
ملك الملوك أسامع فأنادي أم قد عدتك عن السماع عوادي
لما خلت منك القصور ولم تكن فيها كما قد كنت في الأعــياد
قد كنت أحسب أن تبدد أدمعي نيران حزن أضرمت بفــــؤادي

وتعد أيضا دالية ابن اللبانة في رثاء بني عبَّاد ومملكتهم من تلك المراثي التي ربطت بين مأساة المعتمد وضياع ملكه ومأساة الشاعر حين هوى عن عرش الشعر ومملكته:
تبكي السماء بدمع رائح غاد على البهاليل من أبناء عـــــــبَّاد
على الجبال التي هُدّت قواعدها وكانت الأرض منهم ذات أوتاد
نسيت إلا غداة النهر كونهم في المنشآت كأموات بألحـــــاد
تفرقوا جيرة من بعد ما نشأوا أهـلا بأهـل وأولادًا بأولاد
وأما نونية أبي البقاء الرندي فهي واسطة العقد في شعر رثاء المدن وأكثر نصوصه شهرة وأشدها تعبيرا عن الواقع. فهي ترثي الأندلس في مجموعها مدنا وممالك. فتصور ما حلّ بالأندلس من خطوب جليلة لا عزاء فيها ولا تأسٍ دونها وكيف ضاعت قرطبة دار العلوم، وإشبيليا مهد الفن، وحمص مهبط الجمال، وكيف سقطت أركان الأندلس واحدة تلو الأخرى، وكيف أَقفرت الديار من الإسلام فصارت المساجد كنائس وغدا صوت الأذان صوت ناقوس؟!، ثم يهيب أبو البقاء الرندي بفرسان المسلمين عبر عدوة البحر إلى المسارعة لنجدة الأندلس والمسلمين. يقول في أول القصيدة:
لكل شيء إذا ما تم نقصان فلا يُغَرُّ بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول من سره زمن ساءته أزمــان
وللحوادث سلوان يسهلها وما لما حلّ بالإسلام سلوان

إلى أن يقول:
فاسأل بلنسية ما شأن مرسية وأين شاطــبة أم أيـن جيَّــان؟
وأين قرطبة دار العلوم، فكم من عالم قد سما فيها له شان
وأين حمص وما تحويه من نزه ونهرها العذبُ فياض وملآن
قواعد كن أركان البلاد فما عسى البقاء إذا لم تبق أركان
حيث المساجد قد صارت كنائس ما فيهن إلا نواقيـــس وصلبــان
حتى المحاريب تبكي وهي جامدة حتى المنابر ترثي وهي عيدان

وتختتم القصيدة بنغمة حزينة شجية تسفر عن الأسى العميق والتماس العظة والعبرة فيما حل بالأندلس:
لمثل هذا يذوب القلب من كمدٍ إن كان في القلب إسلام وإيمان!

وأهمية رثاء المدن أنه يكشف عن جوانب ثرية من التاريخ السياسي بين المسلمين والنصارى في الأندلس. كما يكشف جانبا من النقد الذاتي الذي واجه به الأندلسيون أنفسهم حين أَدركوا أن الانغماس في حياة اللهو والترف أدى إلى سقوط راية الجهاد، وأن ملوك الطوائف حين حرصوا على ملكهم الفردي أضاعوا ملكًا أعظم. وما أصدق سخرية الشاعر المصحفي حين قال:
مما يزهدني في أرض أندلس أسمــاء معتضــدٍ فيــها ومعتمـــد
ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد







توقيع الطائر المهاجر
 
  رد مع اقتباس